قد يبدو الأمر صادما، خصوصا لأولئك الذين اعتادوا التشكيك في الجهات المسؤولة عن الشأن الديني في المغرب، حيث كلما حلت مناسبة من المناسبات الدينية المرتبطة بحلول الأشهر الهجرية، وبالأخص أشهر رمضان وشوال وذي الحجة، يطفو على السطح النقاش حول صحة رؤية الهلال.
أتذكر قبل سنوات أن نسبة كبيرة من سكان “حي القشريين” بمدينة وزان كانت تصوم وتفطر مع السعودية، لا أدري هل لا يزال بعض من هذه الطائفة موجودا هناك أم لا.
زاد النقاش حدة في السنوات الأخيرة بظهور وسائل التواصل الاجتماعي، ويوجه خلاله المشارقة، وينجر وراءهم في ذلك بعض المغاربة للأسف، أصابع الاتهام إلى المغرب باعتباره واحدا من الدول العربية القليلة التي تخرج عما يسمونه إجماعا عربيا حول موضوع رؤية الهلال، متجاهلين بذلك التقاليد والقواعد التي أصَّل لها المغرب منذ زمن في مسألة رصد الأهلة.
صحيح قد يصعب أحيانا الحسم في مسألة رؤية الهلال في بعض الأشهر، وقد تكون اللجان المسؤولة أخفقت في الرؤية في بعض المرات، لكن ما ينبغي تأكيده هو أن المغرب يبقى واحدا من بين الدول التي تكاد تكون نسبة الخطأ البين فيها شبه منعدمة.
عكس دول المشرق التي بقيت إلى وقت قريب تتبع المملكة العربية السعودية في مسألة الإعلان عن رؤية الأهلة، متحججة ومتحفزة في ذلك بسلطة المكان، غافلة بذلك عن كون قرار الإعلان عن رؤية الهلال قرارا بشريا غير مقدس، قد تتداخل فيه عوامل متعددة.
الخطأ البين في رصد الأهلة في المملكة العربية السعودية
صلب الموضوع يا سادة أنني قمت ببحث تتبعت من خلاله تواريخ الإعلان عن بداية الشهور الهجرية في المغرب وفي السعودية بدءا من بداية سنة 1970م/1389هـ إلى غاية السنة الحالية 2024م/1445هـ، معتمدا في ذلك على التواريخ المثبتة في أرشيف تقويم أم القرى، وهو التقويم الهجري الرسمي المعتمد في المملكة العربية السعودية، وعلى التواريخ المثبتة في أرشيف الجريدة الرسمية للملكة المغربية، وعلى عدد من المواقع التابعة للوكالات والهيئات العالمية المهتمة بالفلك وشؤون الفضاء، بالإضافة إلى بعض التطبيقات الدقيقة التي تقدم خدمات مهمة في هذا الموضوع، فكانت نتيجة البحث أن المملكة العربية السعودية أعلنت خلال هذه الفترة عن رؤية الهلال 130 مرة في أوقات يكون فيها القمر قد غرب قبل غروب الشمس، منها 9 مرات تخص شهر رمضان، و10 مرات تخص شهر شوال، و15 مرة تخص شهر ذي الحجة، وفيما يلي جدول بجميع النتائج.
ومن خلال ملاحظة الأرقام الواردة في الجدول أعلاه يظهر أن آخر خطأ من هذا النوع كان في فاتح شهر شعبان من سنة 1422هـ الموافق لـ 17 أكتوبر 2001، وكما يبين المنحنى في المبيان الموالي، الذي يوضح عمر الهلال عند غروب الشمس يوم إثبات الرؤية بالدقائق في السعودية على امتداد الفترة التي شملها البحث أن المملكة العربية السعودية غيرت، خلال الفترة الممتدة من 1999 إلى 2002 من طريقتها في رصد الأهلة، وقد تزامنت هذه الفترة مع الانتشار الواسع للأنترنيت في العالم العربي.
ويظهر في الجزء الأيسر من المبيان، أن المنحنى يخترق خط الصفر نحو الأسفل مرات عديدة (130 مرة منذ بداية 1970)، وهي المرات التي أعلنت فيها المملكة العربية السعودية عن ثبوت رؤية الهلال رغم أن القمر يكون قد غرب قبل غروب الشمس، هو ما يعني استحالة رؤية الهلال، خلال هذه الفترة وصل الفارق في أيام الشهور الهجرية بين المغرب والسعودية إلى يومين في 97 شهرا. أما بالنسبة للجزء الأيمن فلم يصل هذا الفارق إلى يومين إلا في شهر رجب من سنة 1428هـ/2007م.
أخطاء المغرب في رصد الأهلة
أما بالنسبة للمغرب، فلم يسبق له أن أعلن، خلال الفترة التي شملها البحث (1970 – 2024)، عن ثبوت رؤية الهلال في أي يوم من أيام الرصد التي يغرب فيها القمر قبل غروب الشمس، كما كان عليه الحال بالنسبة للمملكة العربية السعودية قبل سنة 2002م ومن سار على دربها من الدول، وهذا ما جعلني أنفي عن المغرب خلال هذه الفترة الوقوع في الخطإ البين، لكن هذا لا يعني نفي الخطإ عن المغرب بشكل مطلق، حيث إن اعتماد المغرب على معيار الرؤية بالعين المجردة للحسم في ثبوت رؤية الهلال من عدمه، جعل لعوامل أخرى، (فارق الارتفاع بالدرجات بين الشمس والقمر، مدة مكت القمر بعد غروب الشمس، فارق السمت أو زاوية ميلان مدار القمر عن مدار الشمس عند خط الأفق) بالإضافة إلى سوء الأحوال الجوية، دورا في عدم ثبوت الرؤية في أيام رصد يفترض فلكيا أن تكون فيها رؤية الهلال بالعين المجردة يسيرة، ويتعلق الأمر بالشهور التي تظهر أعلى المنحنى في المبيان الموالي.
حيث وصل عمر الهلال مثلا عند غروب شمس يوم التاسع والعشرين من شهر صفر من سنة 1441هـ، الموافق لـ 20 شتنبر 1990م، إلى يوم واحد و17 ساعة و38 دقيقة (1j17h38m)، وتؤكد خريطة رؤية الهلال الموالية أن الجزء الجنوبي من المغرب ينتمي للمجال الملون بالأخضر، وهو المجال الذي يشمل المناطق التي كانت رؤية الهلال فيها ممكنة بالعين المجردة متيسرة، فيما جزؤه الشمالي فينتمى للمجال الملون باللون الزهري، وهو المجال الذي يشمل المناطق التي كانت فيها الرؤية ممكنة بالتلسكوب، وممكنة أيضا بالعين المجردة في حالة صفاء الجو.
قد تجعل العوامل السالفة الذكر إعلان وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب في مثل هذه الأيام عن إكمال هذه الشهور ليومها الثلاثين مبررا ومقبولا، لكن بالنسبة للشهور المؤطرة بالأحمر مثلا في أسفل المنحنى (يتعلق أغلبها بشهر شوال من سنوات 1406، 1413 و1415 هجرية)، وهي شهور أعلنت فيها الوزارة عن ثبوت رؤية الهلال في يوم الرصد (29 رمضان)، فإن كل المؤشرات تدل على عدم إمكانية الرؤية في تلك الأيام حتى باستخدام التليسكوب فبالأحرى بالعين المجردة، حيث أن عمر الهلال عند غروب شمس يوم التاسع والعشرين من رمضان من سنة 1406هـ مثلا، الموافق لـ 7يونيو 1986، لم يتعد خمس ساعات وسبعا وثلاثين دقيقة (0j5h37m)، ولم يصل فارق الارتفاع بين القمر والشمس عند مغرب الشمس إلى خمس درجات، أما مدة مكت الهلال بعد غروب الشمس فدامت 21 دقيقة، فيما تكون الرؤية بالعين المجردة غير ممكنة إذا قلت هذه الأرقام على التوالي عن 15 ساعة و6 درجات و30 دقيقة، وهذا ما تؤكده خريطة الرؤية الموالية، والتي يظهر فيها أن المغرب ينتمي للمجال غير الملون، والتي تشمل المناطق التي تكون فيها الرؤية غير ممكنة.
وأضيف إلى ما سبق أن الفترة التي شملها البحث ضمت 56 شهر رمضان، صمنا وصام آباؤنا منها فقط عشرين شهرا من 30 يوما، أما الباقي وهو ستة وثلاثون شهرا فصمنا في كل منها 29، في الوقت الذي تشير المعطيات الحسابية إلى أن في هذا الزوج لا يجب أن تقل شهور رمضان من 30 يوما عن 26 أي (26/30).
وبناء على كل ما سبق، يمكنني بنسبة كبيرة تكاد تصل إلى حد الجزم، أن أقر بأن المغرب أخطأ فيما لا يقل عن ثلاث مرات في الإعلان عن ثبوت رؤية شهر شوال وأن اليوم الذي والى يوم الإعلان هو يوم عيد الفطر، في الوقت الذي كان علينا أن نكمل صيام اليوم الثلاثين.
من يصوم أولا في حالة توحيد معايير الرؤية في البلدان العربية والإسلامية؟
من أبرز التمثلات والأفكار الخاطئة والمنتشرة بشكل كبير لدينا هنا في المغرب، حول مسألة الاختلاف في إثبات رؤية الهلال بيننا وبين بلدان المشرق التي ينحو معظمها منحى المملكة العربية السعودية باعتبار سلطتها على الأماكن المقدسة، هي تلك التي تنسُب إعلان هذه البلدان بدايات الشهور الهجرية قبل المغرب إلى كونها تقع في اتجاه الشرق بالنسبة لنا، وذلك باعتبار أن شمسهم تشرق وتغرب قبل شروق وغروب شمسنا، وأذانهم للصلوات يسبق أذاننا، كما تحين لحظة مراقبة الهلال يوم الرصد عندهم قبل حينها عندنا… فإن هذا يُفضي حتما إلى ثبوت رؤيتهم الهلال قبلنا، وهنا مكمن الخطأ، حيث إن هذه الفكرة لا تصح إلا إذا كانت الرؤية ممكنة في نفس اليوم في كل البلاد العربية والإسلامية؛ أما وإن كانت الرؤية ستثبُت في بعض البلدان، وتستحيل أو لا تكون ممكنة في دول أخرى، فإن البلدان التي يُفترض أن يكون لها السبق في هذا هي تلك التي تقع جهة الغرب لا جهة الشرق، يعني أن إمكانية ثبوت رؤية الهلال يوم الرصد تزداد كلما اتجهنا نحو الغرب وليس الشرق. وهكذا وإن استثنينا مسلمي دول أمريكا الشمالية والجنوبية، فإن كانت هناك من بلدان يمكنها أن تصوم أو تفطر أو تضحي… بيوم قبل البلدان العربية والإسلامية الأخرى فهي المغرب وموريتانيا والسنغال…
ولتوضيح هذا الأمر سآخذ مثالا من أيام المراقبة وهو يوم العشرين من أبريل من سنة 2023م، الذي وافق يوم مراقبة شهر شوال لسنة 1444هـ، في كل من المغرب والسعودية معا، وهو يوم التاسع والعشرين من شهر رمضان، حيث أثبتت المملكة العربية السعودية رؤية الهلال، وأكدت أن يوم عيد الفطر هو اليوم الموالي، أي يوم الجمعة 21 أبريل، بالرغم من أن الحسابات الفلكية تؤكد عدم إمكانية هذه الرؤية انطلاقا من أية نقطة من ترابها حتى باستعمال التلسكوب، في الوقت الذي أعلن المغرب عن عدم ثبوت رؤية هلال شهر شوال في ذلك اليوم، رغم أن رؤيته كانت ممكنة بواسطة التلسكوب في كل جهات وأقاليم المغرب، وهو ما لا يؤخذ به في بلادنا، حيث يتم اعتماد ثبوت الرؤية بالعين المجردة التي لم تكن ممكنة يومئذ.
فيما يلي جدول بأهم المعطيات الفلكية المرتبطة بالشمس والقمر بكل من المغرب (مدينة طنجة كمثال) والمملكة العربية السعودية (مكة المكرمة كمثال):
من خلال مقارنة الأرقام الواردة في الجدول، يظهر أن عمر الهلال، ومكته، واستطالته، وفرق السمت بينه وبين الشمس، ونسبة الجزء المضيء من قرصه، تزيد في طنجة الواقعة في الغرب مقارنة بمكة المكرمة الواقعة في الشرق، وهي كلها معايير كلما زادت تزيد معها إمكانية رؤية الهلال.
وتأكيدا للمعطيات الواردة في الجدول السابق، أستدل بـ «الخريطة العالمية لرؤية الهلال» وهي واحدة من الخدمات التي يقدمها برنامج «المواقيت الدقيقة» (accurate times)، الذي أعده محمد عودة مدير «مركز الفلك الدولي»، وهو مركز علمي يُعنى بالشؤون الفلكية، ويتخذ من مدينة أبو ظبي مقرا له. وتقسم هذه الخريطة العالم إلى مجموعة مناطق ملونة بألوان مختلفة حسب إمكانية رؤية الهلال، ودلالات هذه الألوان كما يلي:
- اللون الأحمر: رؤية الهلال مستحيلة بسبب غروب القمر قبل غروب الشمس.
- اللون الأزق: رؤية الهلال ممكنة باستخدام التلسكوب فقط.
- اللون الزهري: رؤية الهلال ممكنة باستخدام التلسكوب، ومن الممكن رؤيته بالعين المجردة في حالة صفاء الغلاف الجوي التام.
- اللون الأخضر: رؤية الهلال ممكنة بالعين المجردة.
- فيما المناطق غير الملونة، تكون رؤية الهلال فيها غير ممكنة لا بالعين المجردة ولا بالتلسكوب، على الرغم من غروب القمر بعد غروب الشمس، وذلك بسبب قلة إضاءة الهلال (نسبة الجزء المضيء من قرص القمر) أو بسبب قربه من الأفق (الاستطالة).
من خلال ملاحظة الألوان الظاهرة على هذه الخريطة، يتضح أنه بالرغم من كون القمر غرب بعد غروب الشمس، إلا أن معايير رؤية الهلال لم تكن كافية حتى باستخدام التلسكوب في دول الشرقين الأقصى والأوسط، بما فيها المملكة العربية السعودية، بينما كانت ممكنة بواسطة التلسكوب في شمال وغرب إفريقيا، أما الرؤية بالتلسكوب وبالعين المجردة في حالة صفاء الجو، فكانت ممكنة في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ودول شمال أمريكا الجنوبية. فيما كانت الرؤية يسيرة بالعين المجردة، انطلاقا من الجزء الظاهر من المحيط الهادي الواقع في أقصى يسار الخريطة فقط. وفيما يلي خريطة رؤية الهلال لليوم الموالي.
يظهر من خلال هذه الخريطة أن رؤية الهلال أصبحت ممكنة بالعين المجردة في أغلب دول العالم عند غروب شمس هذا اليوم، وهذا أمر طبيعي باعتبار أن شهر رمضان أكمل الثلاثين يوما في الدول التي لم تؤكد رؤية الهلال في يوم التاسع والعشرين، والمغرب واحد منها.
ولمزيد التأكيد أستدل كذلك بصور للقمر كما يظهر في نفس اليوم عند مشاهدته بالتلسكوب، والتي تحصلت عليها باستخدام برنامج المحاكاة «ستيلاريوم» (Stellarium)، وهو عبارة عن قبة سماوية تُظهر السماء بشكل واقعي وثلاثي الأبعاد، تماماً كما تَظهر بالعين المجردة، أو بالمنظار الثنائي، أو بالتلسكوب
من المغرب (طنجة) | من السعودية (مكة المكرمة) |
تزكي نتيجة المراقبة الظاهرة في الصورتين معطيات الحسابات الفلكية المدرجة في الجدول أعلاه، خصوصا نسبة الجزء المضيء من قرص القمر، التي تساوي في طنجة 0.47%، حيث إن قوس النور في أسفل الصورة مع ميلان قليل نحو اليمين، يَظهر أسمك من ذلك الذي في صورة مكة المكرمة، والذي نلمحه بصعوبة على شكل خيط شُعيري يكاد لا يظهر، وذلك لأن نسبته من قرص القمر تساوي 0.29%
من المغرب (طنجة) | من السعودية (مكة المكرمة) |
يتضح من خلال الصورتين أن هلال طنجة عند غروب شمس يوم 21 أبريل أسمك بقليل من هلال مكة المكرمة، في اليوم الذي يعتبر يوم عيد الفطر بالنسبة للمملكة العربية السعودية، واليوم الثلاثين من رمضان في المملكة المغربية.
من خلال كل ما سبق، وإذا فرضنا أن الدول العربية والإسلامية وحدت معايير الحكم بإثبات رؤية الأهلة، فإن كانت هناك دول يفترض أن تسبق الأخرى بيوم واحد في بدايات الشهور الهجرية فهي تلك التي تقع في غربها.
أما مسألة توحيد أيام بدايات الشهور الهجرية، بالاحتكام إلى الاكتفاء برؤية الهلال في بلد واحد من البلدان العربية والإسلامية (أيا كان هذا البلد)، فهذا غير ممكن عمليا، وذلك لطول الفترة الزمنية الفاصلة بين البلدان الواقعة في أقصى الغرب وتلك التي تقع في أقصى الشرق، حيث يجب على إندونيسيا مثلا أن تنتظر أحيانا أكثر من 8 ساعات بعد غروب شمسها ليتم الإعلان عن رؤية الهلال في المغرب أو موريتانيا مثلا، وهو الوقت الذي يكون فيه الإندونيسيون قد بدأوا يومهم الموالي.
أحمد زربوحي – طنجة يوم 22 يوليوز 2024م